مسيرات الأمم حافلة دائماً بأناس أمضوا حياتهم ورحلوا من دون أن يخلد التاريخ ذكرهم أو حتى يسجل لهم بصمة في سجل الخالدين، لا لشيء سوى لأن التاريخ يحمل الوفاء بطبعه لمن اجتهد وعمل وبذل الجهد المجبول بالنوايا الطيبة والمعطرة بالإخلاص والحب للوطن، فاستحق عن جدارة لا عن مجاملة أو محاباة تدوين اسمه بحروف من ذهب ونور في مسيرة أمته ووطنه .
وإن كانت الإمارات تزخر وتفخر بأبناء بررة متفانين في خدمة بلدهم لا تعرف جهودهم وعطاءاتهم الكلل أو الملل في سبيل الارتقاء بنهضة الإمارات منذ تأسيس الاتحاد وحتى قبله، فإن اسم المغفور له، بإذن الله، الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان، الذي رحل إلى دار الخلود في مثل هذا اليوم منذ ثلاثة أعوام، يحتل موقعاً متميزاً في وجدان الإماراتيين وقلوبهم، بعد عمر قضاه بخدمة بلده وترسيخ دعائم الاتحاد منذ الإعلان عنه، وحتى وفاة الراحل الكبير الذي ترك لنا على عادة الكبار دروساً في التفاني لأجل نماء دولة الإمارات وازدهارها، وأمن مواطنيها وسلامتهم .
كان المرحوم الشيخ مبارك دائماً إلى جانب مؤسس الاتحاد المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وظل طوال حياته العملية التي بدأها مبكراً، الذراع اليمنى للمغفور له الشيخ زايد في مسيرة العمل الوطني بالدولة، عبر تقلده عدداً من المناصب، حيث شغل منصب أول وزير داخلية في تاريخ الدولة ويعد من مؤسسي شرطة أبوظبي، ولم يتوان طوال أربعة عقود أو يزيد عن بذل الغالي والنفيس في سبيل خدمة ورفعة الدولة، وأسهم بقدر كبير في تأسيس دولة الإمارات، ولم يدخر أي جهد أو عمل يصب في مصلحة النهوض بالدولة .
نسب الفقيد
أبصر الفقيد النور في حقبة كانت البساطة عنوانها البارز، وكانت النخوة والرجولة عنواناً لرجالات تلك المرحلة، وكان صفاء النفوس وطيبتها يشعان ابتسامة ما فارقت محياه على الرغم من الانطباع بتجهم كل من له شأن بالأمن والشرطة .
والشيخ مبارك بن محمد هو الابن الثاني للمغفور له الشيخ محمد بن خليفة بن زايد الأول أو زايد الكبير، ويكبره المرحوم الشيخ حمدان بن محمد آل نهيان، ويليه كل من سمو الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان، وسمو الشيخ سيف بن محمد آل نهيان، وسمو الشيخ سرور بن محمد آل نهيان، والشيخ خليفة بن محمد آل نهيان، والشيخ سعيد بن محمد آل نهيان .
ويلتقي نسبه مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في الشيخ زايد الأول أو زايد الكبير، وهو خال صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، حيث إن الشيخة حصة بنت محمد آل نهيان هي والدة صاحب السمو رئيس الدولة .
وله من الأبناء ثلاثة هم المغفور له الشيخ أحمد بن مبارك، والشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التعليم العالي والبحث العلمي، والشيخ حمدان بن مبارك آل نهيان وزير الأشغال العامة .
وزارة الداخلية
في العام ،1961 عُهد إليه برئاسة دائرة الشرطة والأمن العام في أبوظبي، ثم تولى في 18 سبتمبر/أيلول عام 1966 منصب رئيس دائرة الشرطة والأمن العام ودائرة الجنسية والجوازات العامة .
وتذكر سجلات وزارة الداخلية أن المغفور له قد رُقي من رتبة عقيد إلى رتبة لواء في الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول 1968 .
في تلك المرحلة، قام المغفور له بتأسيس قوة شرطية منظمة في أبوظبي، وتضمن ذلك استحداث العديد من أقسام مراكز الشرطة في مختلف أنحاء إمارة أبوظبي، علاوة على مراكز الشرطة الحدودية .
وفي الأول من يوليو/تموز في العام ،1971 تولى المغفور له اللواء الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان مهام وزير الداخلية في إمارة أبوظبي، وبناء على المرسوم الاتحادي رقم (43) لسنة 1973 بتشكيل مجلس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة، عُين المغفور له الشيخ مبارك بن محمد وزيراً للداخلية، وعُهد إليه بتولي مسؤولية الشرطة في إمارة أبوظبي، وظل يشغل منصب وزير الداخلية حتى عام 1990 .
وضع المغفور له نصب عينيه تحسين وتقديم مزايا جديدة لضباط وأفراد الشرطة، وذلك في ما يتعلق برواتب وعلاوات وبدلات منتسبي قوة الشرطة العاملين في شرطة أبوظبي وفي أجهزة وزارة الداخلية كافة .
وأصدر العديد من القوانين والقرارات الوزارية المهمة التي أسهمت في تنظيم وتطوير أجهزة الشرطة والأمن العام في إمارة أبوظبي خاصة، وفي دولة الإمارات عامة، كنظام وزارة الداخلية في إمارة أبوظبي رقم (8)، وقانون الشرطة والأمن العام رقم (1) للعام 1972 .
وعمل على تعيين رجال الشرطة المخلصين في مختلف أقسام ومراكز الشرطة وأجهزة وزارة الداخلية المختلفة، وقطفت ثمار جهوده العظيمة بتخريج العديد من الدفعات والدورات لرجال الشرطة والأمن العام الأكفاء في دولة الإمارات العربية المتحدة .
وقام المغفور له بتشكيل اللجنة العامة لشؤون الشرطة في أبوظبي، واستقطب ونظّم بعثات الأمن العربية للعمل في شرطة أبوظبي، وأسهم في ابتعاث العديد من رجال الشرطة في دورات خارجية لتطوير مهاراتهم وقدراتهم المهنية .
وقطفت ثمار جهوده العظيمة بتخريج العديد من الدفعات والدورات لرجال الشرطة والأمن العام الأكفاء في دولة الإمارات العربية المتحدة، كما أسهم في ابتعاث العديد من رجال الشرطة في دورات خارجية لتطوير مهاراتهم وقدراتهم المهنية، وقام بتشكيل اللجنة العامة لشؤون الشرطة في أبوظبي واستقطب ونظم بعثات الأمن العربية للعمل في شرطة أبوظبي .
وكان للمغفور له دور كبير في توحيد ودمج الشرطة، بحيث تكون لوزارة الداخلية سلطة الإشراف الكامل والمباشر على جميع الشؤون المتعلقة بالأمن والهجرة والإقامة .
المؤتمر العربي الأول
لم يدخر المغفور له جهداً لتنظيم وعقد المؤتمر العربي الأول لقادة الشرطة والأمن العام والذي تم عقده في فبراير/شباط من العام ،1973 وحضره خبراء الشرطة والأمن العربي من 16 دولة عربية .
وعمل على تنظيم وعقد المؤتمر العربي الأول لقادة الشرطة والأمن العام الذي عقد في مدينة العين في فبراير/ شباط ،1973 وحضره خبراء الشرطة والأمن العربي من 16 دولة عربية، ودعا إلى تحسين وتقديم مزايا جديدة لضباط وأفراد الشرطة، وذلك فيما يتعلق برواتب وعلاوات وبدلات منتسبي قوة الشرطة العاملين في شرطة أبوظبي وفي أجهزة وزارة الداخلية كافة.
أوسمة
تقلّد المغفور له، بإذن الله، الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان خلال سنوات حياته الطاهرة العديد من الأوسمة المحلية والعربية تقديراً وعرفاناً بجهوده الدؤوبة المخلصة طوال حياته التي أفناها في خدمة وطنه ورفعته والتي من أهمها:
وسام زايد الثاني
وسام عيد الجلوس “للمغفور له”، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان .
وسام الملك عبدالعزيز آل سعود .
وسام النهضة من الدرجة الأولى، للمملكة الأردنية الهاشمية .
وسام سلطنة عُمان للسلطان قابوس بن سعيد .
وسام الملك الحسن الثاني .
وسام الجمهورية التونسية .
وسام قوة دفاع أبوظبي 1966 .
وشاح الاستحقاق لدولة قطر .
وسام هيئة الهلال الأحمر الإماراتي الخيري .
كما حصل على العديد من أنواط الشرف والميداليات أثناء مدة خدمته المشهودة .
قيام الاتحاد
كان للفقيد بصمات واضحة على الصعيد السياسي، فقد قام بدور بارز خلال المحادثات التي جرت بين أصحاب السمو حكام الإمارات أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد، تمهيداً لقيام اتحاد دولة الإمارات العربية، كما قام بإزالة وإلغاء التعقيدات والمشكلات الحدودية بين الإمارات كإجراءات توقيف السيارات وتدقيق هويات أو بطاقات المسافرين على الحدود بين الإمارات فقط .
وأصدر المغفور له في نوفمبر/تشرين الثاني 1974 قراراً برفع الإجراءات التي كانت مطبقة في مخفر سيح شعيب على السيارات والمسافرين، تأكيداً لوحدة أراضي الإمارات العربية المتحدة .
دور المرأة
كان الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان، رحمه الله، ممن أكدوا الدور الذي تضطلع به المرأة في العديد من مجالات الحياة، واستعدادها للمشاركة في مجال الأمن فقد استحدث وحدة جديدة للشرطة النسائية في فبراير/شباط ،1978 ووجه بإنشاء مدرسة الشرطة النسائية في أبوظبي، ودعا إلى توحيد ودمج الشرطة بحيث تكون لوزارة الداخلية سلطة الإشراف الكامل والمباشر على جميع الشؤون المتعلقة بالأمن والهجرة والإقامة .
نهضة رياضية
تولى المغفور له رئاسة أول اتحاد لكرة القدم في الدولة في أعقاب إعلان الاتحاد في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول من عام ،1971 وكان في الوقت نفسه أول وزير داخلية للإمارات .
وقام المغفور له بإذن الله بتشكيل أول مجلس إدارة لاتحاد كرة القدم، وقد تكوّن من المرحوم الشيخ صقر بن محمد القاسمي نائباً للرئيس وعضوية كل من المرحوم حمودة بن علي وحارب بن عتيبة وجمعة غريب وأحمد علي التاجر وأحمد المدفع وسعيد بن ناصر .
وأخذ الاتحاد الجديد حينذاك على عاتقه تشكيل أول منتخب لكرة القدم بالإمارات، بهدف المشاركة في دورة كأس الخليج الثانية بالسعودية عام ،1972 وبالفعل بدأ الاتحاد في إعداد منتخب الإمارات في يناير/ كانون الثاني عام 1972 أي بعد مرور شهرين فقط على قيام اتحاد الدولة .
ويعود الفضل للشيخ مبارك بن محمد ولمجلسه في تأسيس اتحاد الكرة وفي تشكيل أول منتخب كروي يمثل الإمارات خارجياً، وشاركت الإمارات مع شقيقاتها في دورة الخليج الثانية بالسعودية من 15 وحتى 28 مارس/ آذار ،1972 بعد أن نالت العضوية الانتسابية للاتحاد الدولي لكرة القدم، التي تحولت فيما بعد إلى عضوية أساسية .
وقام المغفور له، بإذن الله، الشيخ مبارك بن محمد ومجلسه بتشكيل أول بعثة رياضية للمشاركة في الدورة برئاسة أحمد علي التاجر ومعه أحمد المدفع نائباً للرئيس ومراد عبدالله إدارياً ومحمد صديق شحتة مدرباً، وجمعة غريب مساعداً للمدرب .
وشاءت الأقدار أن يحقق منتخب الإمارات الفوز على منتخب قطر في هذه الدورة بهدف مقابل لا شيء، سجله سهيل سالم، وقد تسبب هذا الفوز في حصول الإمارات على المركز الثالث بالدورة، ووقف الكابتن أحمد عيسى على منصة التتويج وتم عزف السلام الوطني وارتفع علم الإمارات عالياً للمرة الأولى خارج الحدود .
وحققت الكرة الإماراتية قفزة هائلة إبان فترته كونه أول من تولى رئاسة مجلس إدارة اتحاد الكرة، وصعدت إلى نهائيات كأس العالم 90 في إيطاليا، وأسهم تأسيس الاتحاد رسميا على مستوى الدولة في تحويل أرض الإمارات إلى عاصمة للصداقة والسلام وأصبح مجلسه العامر مكاناً بارزاً لكل ضيوف الإمارات بفضل التوجهات السديدة التي أرسى معالمها الأساسية الشيخ الراحل .
وقام مجلس إدارة اتحاد الكرة بزيارة إلى المغفور له الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان في 8 يونيو/ حزيران 2008 وقدم كأساً تكريمية له تقديراً لدعم المغفور له، بإذن الله، المتواصل للرياضة والرياضيين .
كلمات للفقيد
يُسجّل للفقيد المغفور له الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان، رحمه الله، ما طاب له أن يسجله بيده “للواقع والتاريخ”، في كلمته بمناسبة “اليوبيل الذهبي لشرطة أبوظبي”، التي يعد من مؤسسيها ومن الذين أسهموا في بنائها وتطويرها .
واستهل الفقيد كلمته يومها في المؤتمر العربي الأول لقادة الشرطة بالحديث عن حكمة وبُعد رؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي كان الفقيد إلى جانبه كذراعه الأيمن، من دون أن ينسى شكر الله تعالى على مواصلة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، صون مسيرة الوالد المؤسس وإحيائها وتطويرها .
وقال الفقيد المغفور له الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان في كلمته: يطيب لي في بداية هذه الكلمة، وبمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس شرطة أبوظبي، أن أسجل للواقع والتاريخ، تلك الرؤية العميقة والحكيمة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، في جعل توفير الأمن للوطن والمواطن، على رأس كل الأولويات في منظومة المسيرة الرائدة التي بدأها سموه، وأسس من خلالها دولة قوية، تتمتع بالأمان والاستقرار، وتجسد بالقول والفعل معاً، مبادئ التسامح والتعايش والسلام، والحمد لله، أن هذه المسيرة لاتزال مصونة وحيوية ومتطورة، بفضل خير خلف لخير سلف: صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله .
كما أنني أحمد المولى العلي القدير، على أن وفقني وعلى مدار سنوات – قضيتها قائداً للشرطة، ثم وزيراً للداخلية في هذا البلد العزيز – إلى أن أؤدي مهامي، وأقوم بمسؤولياتي وواجباتي، إلى جانب أخوة أفاضل، وزملاء أعزاء، في إقرار الأمن، وحماية الوطن والمواطن، بل والأهم: توفير الاستقرار للناس، مواطنين ومقيمين ومن دون استثناء .